فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه: {وعَابِدُ الطَّاغُوتِ} بضمِّ الدالِ، وجَرِّ {الطاغوت}؛ كضَاربِ زَيْدٍ، قال أبو عمرو: تقديرُه: «وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ»، قال ابن عطية: «فهو اسمُ جنْسٍ»، قلت: يعني أنه أرادَ بـ «عابد» جماعةً، قلتُ: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها «وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ» جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعًا، فقال: «تقديرُه: هُمْ عَابِدُو»، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد، أو سمعُوهُ يقف على «عَابِد»، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس: {وعَابِدُوا} بالواو، وعلى الجملة، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظًا، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ.
وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ: {وعَابِدُوا} بالجمْعِ، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ: {وعَابِدَ} بنصب الدالِ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ، وهو أيضًا مفرد يُرادُ به الجِنْسُ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة: {وعبدَ الطَّاغُوت} بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ، وجَرِّ {الطَّاغُوتِ}؛ وتخريجُها: أنَّ الأصلَ: «وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ» وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة؛ كقوله: [الرجز]
قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا

أي: وُلاتُهَا؛ وكقوله: [البسيط]
-....... ** وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا

أي: عدةَ الأمرِ، ومنه: {وَإِقَامَ الصلاة} [الأنبياء: 73] أي: إقامةِ الصلاة، ويجوزُ أن يكون «عبد» اسم جنسٍ لعابدٍ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ، وحينئذ: فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة، وقُرِئ: {وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ} بثبوت التاء، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلًا يُجْمَعُ على «فَعَلَةٍ» كَبَارٍّ وبررَةٍ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ.
وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر: {وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ} جمع عَبْدٍ، كفَلْسٍ وأفْلُس، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ، وقرأ ابن عبَّاس: {وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ} جمعَ عَبْدٍ أيضًا، وهو نحو: «كَلْبٍ وكَلِيبٍ» قال: [الطويل]
تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ** رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ

وقُرئ أيضًا: {وعَابِدِي الطَّاغُوتِ}، وقرأ عبد الله بن مسعُود: {ومَنْ عَبَدُوا}، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها: «وعَابِدَ الشَّيْطَانِ»؛ لأنها تفسيرٌ، لا قراءة.
وقال ابن عطيَّة: «وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ، لا قراءة» يعني: لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية، ظَنَّ بعضُهم؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال، ولا يُعْتقدَ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه، وهذا بخلاف و«عَابِدَ الشَّيْطَانِ»، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم.
وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء: أن يقال: سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ «عَبَدَ» فعلًا ماضيًا، وهي: وعَبَد، وعَبَدُوا، ومَنْ عَبَدُوا، وعُبِدَ، وعُبِدَت، وعَبُدَ، وعَبْدَ في قولنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفًا، كـ «سَلْفَ» في «سَلَفَ»، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسِيرٍ، وهي: وعُبُدَ، وعُبَّدَ، مع جَرِّ الطاغوتِ، وعُبَّدَ مع نصبه، وعُبَّاد، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ، وعَبَدَةَ، وأعْبُد، وعَبِيدَ، وستٌّ مع المفْرَدِ: وعَبُدَ، وعُبَدَ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال، وعَابِدَ الشيطانِ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة: وعَابِدُوا بالواو، وعَابِدِي بالياء، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان:
أحدهما: أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها، والتقدير: مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
والثاني: أنه ليس داخلًا في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ «مَنْ»، أي: ومن عَبَدَ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ «مَنْ»، إلاَّ أنَّ هذا- كما قال الواحديُّ- يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين، جائزٌ عند الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]، أي: وبالذي أُنْزِلَ، وعلى قراءةِ جمع التكسير، فيكون منصوبًا عطفًا على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ، أي: جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضًا، ويجوزُ النصبُ فيها أيضًا من وجهٍ آخر، وهو العطفُ على «مَنْ» في {مَن لَّعَنَهُ الله}، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنْسُ، وفي بعضها قُرئ برفعه؛ نحو: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ»، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك.
قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على «مَنْ» في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله}؛ ويَدُلُّ لذلك: أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله: {وَعَابِدُوا} بالواوِ هذين الوجهَيْن، فهذا مثله، وأما قراءة جمع السلامة، فمن قرأ بالياء، فهو منصوبٌ؛ عطفًا على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران:
أحدهما: أنه منصوبٌ عطفًا على «مَنْ» في {مَن لَّعَنَهُ الله} إذا قلنا: إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ.
والثاني: أنه مجرورٌ؛ عطفًا على {مَن لَّعَنَهُ الله} أيضًا، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلًا من {بِشَرٍّ}؛ كما تقدَّم إيضاحُه، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ، والله أعلمُ.
ومَنْ قرأ بالواو فرفعه: إمَّا على إضمار مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُوا الطَّاغُوتِ، وإمَّا نَسَقٌ على «مَنْ» في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله} كما تقدَّم.
قوله تعالى: {أولئك شَرٌّ} مبتدأ وخبر، و{مكانًا} نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله، كنايةً عن نهايتهم في ذلك كقولهم: فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و{شَرّ} هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، فإن قيل: كيف يُقال ذلك، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما:- ما قاله النحاس- أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ، يعني: من الهمومِ الدنيويةِ، والحاجةِ، والإعسارِ، وسماعِ الأذَى، والهَضْمِ من جانبهم، قال: «وهذا أحسنُ ما قيل فيه».
والثاني: أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه؛ إلزامًا له بالحُجَّة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى.
والثاني من الاحتمالين: أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ، أي: أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت- شرٌّ مكانًا من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (61):

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم ذلك عطف سبحانه على {وإذا ناديتم إلى الصلاة} قوله دالًا على استحقاقهم للعن وعلى ما أخبر به من شرهم وضلالهم بما فضحهم به من سوء أعمالهم دلالة على صحة دين الإسلام بإطلاع شارعه عليه أفضل الصلاة والسلام على خفايا الأسرار: {وإذا جاءوكم} أي أيها المؤمنون! هؤلاء المنافقون من الفريقين، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئًا عند الله، والعدول إلى خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم {قالوا آمنا} أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر، لكونهما علة للمعطوف عليه، فهما كالجزء منه.
ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقربًا لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه، فوجب التوقع للتصريح بها: {وقد} أي قالوا ذلك والحال أنهم قد {دخلوا} أي إليكم {بالكفر} مصاحبين له متلبسين به.
ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال، لما يرون من سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيدًا للأخبار عن ثباتهم على الكفر، لأنه أمر ينكره العاقل فقال: {وهم} أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم، لا منك ولا من أتباعك {قد خرجوا به} أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما رأوا من الخير، دالًا على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات، وذكر المسند إليه مرتين، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا.
ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه، نبه عليه بقوله: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علمًا وقدرة {أعلم} أي منهم وممن توسم فيهم النفاق {بما كانوا} أي بما في جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد {يكتمون} أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قالوا: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقًا، فأخبره الله عزّ وجلّ بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك. اهـ.

.قال ابن عطية:

الضمير في {جاؤوكم} لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: {وهم} تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: {وهم قد خرجوا به} أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله: {والله أعلم بما كانوا يكتمون} أي من الكفر. اهـ.

.قال الألوسي:

الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

عطف {وإذا جاؤوكم} على قوله: {وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزؤًا} [المائدة: 58] الآية، وخصّ بهذه الصّفات المنافقون من اليهود من جملة الّذين اتّخذوا الدّين هزوءًا ولعبًا، فاستُكمِل بذلك التّحذيرُ ممّن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين.
ولا يصحّ عطفه على صفات أهل الكتاب في قوله: {وجَعَلَ منهم القردة} [المائدة: 60] لعدم استقامة المعنى، وبذلك يستغني عن تكلّف وجه لهذا العطف. اهـ.

.قال الفخر:

الباء في قوله: {دَّخَلُواْ بالكفر وَ... خَرَجُواْ بِهِ} يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه ألبتة، كما تقول: دخل زيد بثوبه وخرج به، أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول. اهـ.